لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)
لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
. ( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) أي: حريقها في الأجساد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبيه، عن الجريري
، عن أبي عثمان: ( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) ، قال: حيات على الصراط
تلسعهم، فإذا لسعتهم قال: حَسَ حَسَ.
وقوله: ( وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ) فسلمهم من المحذور والمرهوب، وحصل لهم المطلوب والمحبوب.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي سُرَيج، حدثنا محمد بن
الحسن بن أبي يزيد الهمداني، عن ليث بن أبي سليم، عن ابن عم النعمان بن
بشير، عن النعمان بن بشير قال -وسَمَرَ مع علي ذات ليلة، فقرأ:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ قال: أنا منهم، وعمر منهم، وعثمان منهم، والزبير منهم، وطلحة منهم، وعبد
الرحمن منهم -أو قال: سعد منهم-قال: وأقيمت الصلاة فقام، وأظنه يجر ثوبه،
وهو يقول: ( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) .
وقال شعبة، عن أبي بشر، عن يوسف المكي، عن محمد بن حاطب
قال: سمعت عليا يقول في قوله:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى قال: عثمان وأصحابه.
ورواه ابن أبي حاتم أيضا، ورواه ابن جرير من حديث يوسف بن سعد -وليس بابن ماهك-عن محمد بن حاطب، عن علي، فذكره ولفظه: عثمان منهم.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ : فأولئك أولياء الله يمرون على الصراط مرًّا هو أسرع من البرق، ويبقى الكفار فيها جِثيًّا.
فهذا مطابق لما ذكرناه، وقال آخرون: بل نـزلت استثناء من المعبودين،
وخرج منهم عزير والمسيح، كما قال حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج وعثمان
بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس:
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ، ثم استثنى فقال:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى فيقال
: هم الملائكة، وعيسى، ونحو ذلك مما يعبد من دون الله عز وجل. وكذا قال عكرمة، والحسن، وابن جريج
.
وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى قال: نـزلت في عيسى ابن مريم وعُزَير، عليهما السلام.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسين بن عيسى بن مَيْسَرَة،
حدثنا أبو زُهَير، حدثنا سعد بن طَرِيف، عن الأصبغ، عن عَليّ في قوله:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى قال: كل شيء يعبد من دون الله في النار إلا الشمس والقمر وعيسى ابن مريم. إسناده ضعيف.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد:
أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ، قال: عيسى، وعُزَيْر، والملائكة.
وقال الضحاك: عيسى، ومريم، والملائكة، والشمس، والقمر. وكذا روي عن سعيد بن جُبَيْر، وأبي صالح وغير واحد.
وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثا غريبًا جدا، فقال: حدثنا الفضل بن
يعقوب الرُّخَّاني، حدثنا سعيد بن مسلمة بن عبد الملك، حدثنا الليث بن أبي
سليم، عن مُغيث، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ قال: عيسى، وعُزَير، والملائكة
.
وذكر بعضهم قصة ابن الزِّبَعْرَى ومناظرةَ المشركين، قال أبو بكر بن مَرْدُويه:
حدثنا محمد بن علي بن سهل، حدثنا محمد بن حسن الأنماطي، حدثنا إبراهيم
بن محمد بن عَرْعَرَةَ، حدثنا يزيد بن أبي حكيم، حدثنا الحكم -يعني: ابن
أبان-عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جاء عبد الله بن الزبعرى إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: تزعم أن الله أنـزل عليك هذه الآية:
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ، فقال ابن الزبعرى: قد عُبدت الشمس والقمر والملائكة، وعُزَير وعيسى ابن مريم، كل هؤلاء في النار مع آلهتنا؟ فنـزلت:
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ *
وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ، ثم نـزلت:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ . رواه الحافظ أبو عبد الله في كتابه "الأحاديث المختارة".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا قَبِيصة بن عقبة، حدثنا سفيان
-يعني: الثوري-عن الأعمش، عن أصحابه، عن ابن عباس قال: لما نـزلت:
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ قال المشركون: فالملائكة
،عُزَير، وعيسى يُعْبَدون من دون الله؟ فنـزلت:
لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا ، الآلهة التي يعبدون،
وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ .
وروي عن أبي كُدَيْنَة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس مثل ذلك، وقال فنـزلت:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ .
وقال [الإمام]
محمد بن إسحاق بن يسار
، رحمه الله، في كتاب "السيرة" : وجلس رسول الله -فيما بلغني-يومًا مع
الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي
المسجد
غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر
بن الحارث، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، وتلا عليه
وعليهم
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ إلى قوله:
وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عبد الله بن الزبَعْرَى
السهمي حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعرى: والله ما
قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفًا ولا قعد، وقد زعم محمد أنَّا
وما نعبد
من آلهتنا هذه حصب جهنم. فقال عبد الله بن الزبعرى: أما والله لو وجدته لَخَصمته، فسلوا محمدًا: كل ما يُعْبَد
من دون الله في جهنم مع من عَبَده، فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد
عزيرًا، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم؟ فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس،
من قول عبد الله بن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم.
فَذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "كل مَنْ أحَبَّ أن
يُعْبَدَ من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين
ومن أمَرَتْهُم
بعبادته. وأنـزل الله:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ . ( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ
خَالِدُونَ ) أي: عيسى وعزير ومن عُبدوا من الأحبار والرهبان، الذين مضوا
على طاعة الله، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابًا من دون الله.
ونـزل فيما يذكرون، أنهم يعبدون الملائكة، وأنهم بنات الله:
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ *
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ إلى قوله:
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:26-29]، ونـزل فيما ذُكر من أمر عيسى، وأنه يعبد من دون الله، وعَجَب الوليد ومن حَضَره من حُجَّته وخصومته:
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ *
وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ *
إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ *
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ *
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا [الزخرف:57 -61] أي: ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام، فكَفى به دليلا على علم الساعة، يقول:
فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [الزخرف:61]
.
وهذا الذي قاله ابن الزبعرى خطأ كبير؛ لأن الآية إنما نـزلت خطابًا لأهل
مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل، ليكون ذلك تقريعًا وتوبيخًا
لعابديها؛ ولهذا قال:
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ فكيف يورد على هذا المسيح والعزير
ونحوهما، ممن
له عمل صالح، ولم يَرْضَ بعبادة من عبده. وعَوّل ابن جرير في تفسيره في الجواب على أن "ما" لما لا يعقل عند العرب.
وقد أسلم عبد الله بن الزبعرى بعد ذلك، وكان من الشعراء المشهورين. وكان يهاجي المسلمين أولا ثم قال معتذرًا:
يـا رَسُــولَ المليـك, إنّ لـسـاني |
| رَاتـقٌ مَـا فتَقْــتُ إذْ أنَـا بُــورُ |
إذْ أجَـاري الشَّـيطَانَ فـي سَنَن الغَي |
| وَمَــنْ مَــالَ مَـيْلَــه مَـثْبُـور |
وقوله: ( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ ) قيل المراد بذلك الموت. رواه عبد الرزاق، عن يحيى بن ربيعة عن عطاء.
وقيل: المراد بالفزع الأكبر: النفخة في الصور. قاله العَوْفي عن ابن عباس، وأبو سِنَان سعيد
ابن سنان الشيباني، واختاره ابن جرير في تفسيره.
وقيل: حين يُؤْمَر بالعبد إلى النار. قاله الحسن البصري.
وقيل: حين تُطبق النار على أهلها. قاله سعيد بن جُبَيْر، وابن جُرَيج.
وقيل: حين يُذبَح الموت بين الجنة والنار. قاله أبو بكر الهذلي
، فيما رواه ابن أبي حاتم، عنه.
وقوله: ( وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي
كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) ، يعني: تقول لهم الملائكة، تبشرهم يوم معادهم إذا
خرجوا من قبورهم: ( هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) أي:
قابلوا
ما يسركم.
يَوْمَ
نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا
أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
.
يقول تعالى: هذا كائن يوم القيامة، ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) كما قال تعالى:
وَمَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67] وقد قال البخاري:
حدثنا مُقَدم بن محمد، حدثني عمي القاسم بن يحيى، عن عُبَيد الله، عن
نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله يقبض
يوم القيامة الأرَضِين، وتكون السماوات بيمينه"
.
انفرد به من هذا الوجه البخاري، رحمه الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج الرَّقِّي، حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي الواصل
، عن أبي المليح الأزدي
، عن أبي الجوزاء الأزدي، عن ابن عباس قال: يطوي الله
السماوات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة، يطوي ذلك كله
بيمينه، يكون ذلك كله في يده بمنـزلة خردلة.
وقوله: ( كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) ، قيل: المراد بالسجل [الكتاب. وقيل: المراد بالسجل]
هاهنا: مَلَك من الملائكة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا
يحيى بن يمان، حدثنا أبو الوفاء الأشجعي، عن أبيه، عن ابن عمر في قوله
تعالى: ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) ،
قال: السجل: مَلَك، فإذا صعد بالاستغفار قال: اكتبها نورًا.
وهكذا رواه ابن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن ابن يمان، به.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي جعفر
محمد بن علي بن الحسين أن السجل ملك.
وقال السدي في هذه الآية: السجل: مَلَك موكل بالصحف، فإذا مات الإنسان رفع
كتابُه إلى السجل فطواه، ورفعه إلى يوم القيامة.
وقيل: المراد به اسم رجل صحابي، كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم
الوحي: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا نصر بن علي الجَهْضَميّ،
حدثنا نوح بن قيس، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس: [ (
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) ]
، قال: السجل: هو الرجل.
قال نوح: وأخبرني يزيد بن كعب -هو العَوْذي-عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: السجل كاتب
للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا رواه أبو داود والنسائي عن قتيبة بن سعيد
، عن نوح بن قيس، عن يزيد بن كعب، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، قال: السجل كاتب
للنبي صلى الله عليه وسلم
.
ورواه ابن جرير عن نصر بن علي الجهضمي، كما تقدم. ورواه ابن عدي من
رواية يحيى بن عمرو بن مالك النُّكْريّ عن أبيه، عن أبي الجوزاء، عن ابن
عباس قال: كان للنبي
صلى الله عليه وسلم كاتب يسمى
السجل وهو قوله: ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ
لِلْكُتُبِ ) ، قال: كما يطوى السجل الكتاب، كذلك نطوي السماء، ثم قال: وهو
غير محفوظ
.
وقال الخطيب البغدادي في تاريخه: أنبأنا أبو بكر البَرْقَاني، أنبأنا
محمد بن محمد بن يعقوب الحجاجي، أنبأنا أحمد بن الحسن الكرخي، أن حمدان بن
سعيد حدثهم، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن
عمر، قال: السجلّ: كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم
.
وهذا منكر جدًّا من حديث نافع عن ابن عمر، لا يصح أصلا وكذلك ما تقدم عن
ابن عباس، من رواية أبي داود وغيره، لا يصح أيضًا. وقد صرح جماعة من
الحفاظ بوضعه -وإن كان في سنن أبي داود-منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو
الحجاج المِزِّي، فَسَح الله في عمره، ونَسَأ في أجله، وختم له بصالح عمله،
وقد أفردت لهذا الحديث جزءًا على حدة
، ولله الحمد. وقد تصدى الإمام أبو جعفر بن جرير للإنكار على هذا الحديث، ورده أتم رد، وقال: لا يُعَرف في الصحابة أحد
اسمه السجِل، وكُتَّاب النبي صلى الله عليه وسلم معروفون، وليس فيهم أحد
اسمه السجل، وصَدَق رحمه الله في ذلك، وهو من أقوى الأدلة على نَكَارة هذا
الحديث. وأما مَنْ ذكر في أسماء الصحابة هذا، فإنما اعتمد على هذا الحديث،
لا على غيره، والله أعلم. والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة، قاله
علي بن أبي طلحة والعوفي، عنه. ونص على ذلك مجاهد، وقتادة، وغير واحد.
واختاره ابن جرير؛ لأنه المعروف في اللغة، فعلى هذا يكون معنى الكلام: (
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) أي: على [هذا]
الكتاب، بمعنى المكتوب، كقوله:
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103]، أي: على الجبين، وله نظائر في اللغة، والله أعلم.
وقوله: ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا
إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) يعني: هذا كائن لا محالة، يوم يعيد الله
الخلائق خلقًا جديدًا، كما بدأهم هو القادر على إعادتهم
، وذلك واجب الوقوع، لأنه من جملة وعد الله الذي لا يخلف ولا يبدل، وهو القادر على ذلك. ولهذا قال: ( إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع وابن جعفر المعنى
، قالا
: حدثنا شعبة، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس
قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: "إنكم محشورون
إلى الله عز وجل حفاة عراة غُرْلا ( كما بدأنا أول خلق نعيده وعدًا علينا
إنا كنا فاعلين ) " ؛ وذكر تمام الحديث، أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة.
ورواه
البخاري عند هذه الآية في كتابه
.
وقد روى ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن عائشة عن النبي
صلى الله عليه وسلم، نحو ذلك.
وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) قال: نهلك كل شيء، كما كان أول مرة.
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
.
يقول تعالى مخبرا عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين، من السعادة في الدنيا والآخرة، ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى:
إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]. وقال:
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]. وقال:
وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
[وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا] ،الآية [النور:55] .وأخبر تعالى أن هذا مكتوب مسطور في الكتب الشرعية
والقدرية فهو كائن لا محالة؛ ولهذا قال تعالى: ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي
الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) ، قال الأعمش: سألت سعيد بن جُبَير عن
قوله تعالى: ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ )
فقال الزبور: التوراة، والإنجيل، والقرآن
.
وقال مجاهد: الزبور: الكتاب.
وقال ابن عباس، والشعبي، والحسن، وقتادة، وغير واحد: الزبور: الذي أنـزل على داود، والذكر: التوراة، وعن ابن عباس: الزبور: القرآن.
وقال سعيد بن جُبَير: الذكر: الذي في السماء.
وقال مجاهد: الزبور: الكتبُ بعد الذكر، والذكر: أمّ الكتاب عند الله.
واختار ذلك ابن جرير رحمه الله
، وكذا قال زيد بن أسلم: هو الكتاب الأول. وقال الثوري: هو اللوح المحفوظ.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الزبور: الكتب التي نـزلت على الأنبياء،
والذكر: أم الكتاب الذي
يكتب فيه الأشياء قبل ذلك.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أخبر الله سبحانه
في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض، أن يُورثَ
أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم الأرض ويدخلهم الجنة، وهم الصالحون.
وقال مجاهد، عن ابن عباس: ( أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ
الصَّالِحُونَ ) قال: أرض الجنة. وكذا قال أبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن
جُبَير، والشعبي، وقتادة، والسدي، وأبو صالح، والربيع بن أنس، والثوري
[رحمهم الله تعالى]
.
وقوله: ( إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ) أي: إن في
هذا القرآن الذي أنـزلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم لبَلاغًا:
لمَنْفعةً وكفاية لقوم عابدين، وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبه ورضيه،
وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم.
وقوله [تعالى]
: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) : يخبر تعالى أن
الله جَعَل محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، أي: أرسله رحمة لهم
كلّهم، فمن قَبِل هذه الرحمةَ وشكَر هذه النعمةَ، سَعد في الدنيا والآخرة،
ومن رَدّها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ *
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [إبراهيم : 28، 29] ، وقال الله تعالى في صفة القرآن:
قُلْ
هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي
آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ
مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] .
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا مروان الفَزَاريّ، عن
يزيد بن كَيْسَان، عن ابن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله،
ادع على المشركين، قال: "إني لم أبعَثْ لَعَّانًا، وإنما بُعثْتُ رحمة".
انفرد بإخراجه مسلم
.
وفي الحديث الآخر: "إنما أنا رحمة مهداة" . رواه عبد الله بن أبي عرابة،
وغيره، عن وَكِيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا
. قال إبراهيم الحربي: وقد رواه غيره عن وكيع، فلم يذكر أبا هريرة
. وكذا قال البخاري، وقد سئل عن هذا الحديث، فقال: كان عند حفص بن غياث مرسلا.
قال الحافظ ابن عساكر: وقد رواه مالك بن سُعَير بن الْخِمْس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا
. ثم ساقه من طريق أبي بكر بن المقرئ وأبي أحمد الحاكم، كلاهما عن بكر بن
محمد بن إبراهيم الصوفي: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، عن أبي أسامة، عن
إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس
بن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا رحمة مهداة".
ثم أورده من طريق الصَّلْت بن مسعود، عن سفيان بن عيينة، عن مِسْعَر
، عن سعيد بن خالد، عن رجل، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إن الله بعثني رحمة مهداة، بُعثْتُ برفع قوم وخفض آخرين"
.
قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد بن نافع الطحان، حدثنا
أحمد بن صالح قال: وجدت كتابًا بالمدينة عن عبد العزيز الدّراوردي وإبراهيم
بن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمد بن صالح
التمار، عن ابن [شهاب]
عن محمد بن جُبَير بن مطعم، عن أبيه قال: قال أبو جهل حين قدم [مكة]
منصرفه عن حَمْزَة: يا معشر قريش، إن محمدًا نـزل يثرب وأرسل طلائعه،
وإنما يريد أن يصيب منكم شيئا، فاحذروا أن تمروا طريقَه أو تقاربوه
، فإنه كالأسد الضاري؛ إنه حَنِق عليكم؛ لأنكم نفيتموه نفي القِرْدَان عن المناسم
، والله إن له لَسحْرَةً، ما رأيته قط ولا أحدًا من أصحابه إلا رأيت معهم
الشيطان، وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قَيلَةَ -يعني: الأوس والخزرج-لهو عدو
استعان بعدو، فقال له مطعم بن عدي: يا أبا الحكم، والله ما رأيتُ أحدًا
أصدقَ لسانًا، ولا أصدق موعدًا، من أخيكم الذي طردتم، وإذ فعلتم الذي فعلتم
فكونوا أكف الناس عنه. قال [أبو سفيان]
بن الحارث: كونوا أشدّ ما كنتم عليه، إن
ابني قيلَةَ إن ظفَرُوا بكم لم يرْقُبوا فيكم إلا ولا ذمة، وإن أطعتموني ألجأتموهم خير كنابة، أو تخرجوا محمدًا من بين ظهرانيهم، فيكون وحيدا مطرودا، وأما [ابنا قَيْلة فوالله ما هما]
وأهل [دهلك]
في المذلة إلا سواء وسأكفيكم حدهم، وقال:
سَــأمْنَحُ جَانبًــا منّــي غَليظًــا |
| عَـلَى مَـا كَـانَ مِـنْ قُـرب وَبُعْـد |
رجَـــالُ الخَزْرَجيَّــة أهْـــلُ ذُل |
| إذا مَـــا كَـانَ هَـزْل بَعْـدَ جــد |
فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والذي نفسي بيده،
لأقتلنهم ولأصلبَنَّهم ولأهدينهم وهم كارهون، إني رحمة بعثني الله، ولا
يَتَوفَّاني حتى يظهر الله دينه، لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأحمد، وأنا
الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي،
وأنا العاقب"
.
وقال أحمد بن صالح: أرجو أن يكون الحديث صحيحًا.
وقال الإمامُ أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، حدثني عَمْرو بن
قَيس، عن عمرو بن أبي قُرّة الكِنْديّ قال: كان حُذيفةُ بالمدائن، فكان
يذكر أشياء قالها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فجاء حذيفةُ إلى سَلْمان
فقال سلمان: يا حذيفةُ، إنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم [كان يغضب
فيقول، ويرضى فيقول: لقد علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم]
خطَب فقال: "أيما رجل من أمتي سَبَبتُه [سَبَّةً]
في غَضَبي أو لعنته لعنةً، فإنما أنا رجل من ولد آدم، أغضب كما يغضبون،
وإنما بعثني رحمةً للعالمين، فاجعلها صلاة عليه يوم القيامة".
ورواه أبو داود، عن أحمد بن يونس، عن زائدة
.
فإن قيل: فأيّ رحمة حصلت لمن كَفَر به؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن
جرير: حدثنا إسحاق بن شاهين، حدثنا إسحاق الأزرق، عن المسعودي، عن رجل يقال
له: سعيد، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) قال: من آمن بالله واليوم الآخر، كُتِبَ
له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عُوِفي مما أصاب
الأمم من الخسف والقذف
.
وهكذا رواه ابن أبي حاتم، من حديث المسعودي، عن أبي سعد -وهو سعيد بن
المرزبان البقّال-عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فذكره بنحوه، والله أعلم.
وقد رواه أبو القاسمِ الطبراني عن عبدان بن أحمد، عن عيسى بن يونس
الرَّمْلِيِّ، عن أيوب بن سُوَيد، عن المسعودي، عن حبيب بن أبي ثابت، عن
سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً
لِلْعَالَمِينَ ) قال: من تبعه كان له رحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم
يتبعه عُوفِي مما كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف والقذف
.
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)
قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
.
يقول تعالى آمرًا رسوله، صلوات الله وسلامه عليه، أن يقول للمشركين: (
إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ
أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) أي: متبعون على ذلك، مستسلمون منقادون
له.
( فَإِنْ تَوَلَّوْا ) أي: تركوا ما دعوتهم إليه، ( فَقُلْ آذَنْتُكُمْ
عَلَى سَوَاءٍ ) أي: أعلمتكم أني حَرْب لكم، كما أنكم حَرْبٌ لي، بريء منكم
كما أنكم بُرآء مني، كقوله:
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس: 41]. وقال
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال: 58]: ليكن
علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء، وهكذا هاهنا، ( فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ ) أي: أعلمتكم ببراءتي منكم، وبراءتكم
مني؛ لعلمي بذلك.
وقوله: ( وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ) أي:
هو واقع لا محالة، ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده، ( إِنَّهُ يَعْلَمُ
الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ) أي: إن الله يعلم
الغيب جميعَه، ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون، يعلم الظواهر والضمائر،
ويعلم السر وأخفى، ويعلم ما العباد عاملون في أجهارهم وأسرارهم، وسيجزيهم
على ذلك، على القليل والجليل.
وقوله: ( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) أي: وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين.
قال ابن جرير: لعل تأخير ذلك
عنكم فتنة لكم، ومتاع إلى أجل مسمى
. وحكاه عون، عن ابن عباس، والله أعلم.
( قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ) أي: افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق.
قال قتادة: كان الأنبياء، عليهم السلام، يقولون:
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف: 89]، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك.
وعن مالك، عن زيد بن أسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد قتالا قال: ( رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ) .
وقوله: ( وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ )
أي: على ما يقولون ويفترون من الكذب، ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك،
والله المستعان عليكم في ذلك