قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)
وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ
شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا
وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
.
وقوله: ( قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ) أي: إنما أنا مبلغ
عن الله ما أنذركم
به من العذاب والنكال، ليس ذلك إلا عما أوحاه الله إليّ، ولكن لا يجدي هذا
عمن أعمى الله بصيرته، وختم على سمعه وقلبه؛ ولهذا قال: ( وَلا يَسْمَعُ
الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ) .
وقوله: ( وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ
لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) أي: ولئن مس هؤلاء
المكذبين أدنى شيء من عذاب الله، ليعترفن بذنوبهم، وأنهم كانوا ظالمين
أنفسهم في الدنيا.
وقوله: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا
تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ) أي: ونضع الموازين العدل ليوم القيامة. الأكثر
على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه.
وقوله: ( فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ
مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) كما قال تعالى:
وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، وقال:
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، وقال لقمان:
يَا
بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي
صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ
إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [ لقمان:16] .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن:
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"
.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطَّالَقَاني، حدثنا ابن
المبارك، عن ليث بن سعد، حدثني عامر بن يحيى، عن أبي عبد الرحمن الحبلي،
قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إن الله عز وجل يستخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة،
فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مد البصر، ثم يقول أتنكر من هذا شيئًا؟
أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب، قال: أفلك
عذر، أو حسنة؟" قال: فيبهت الرجل فيقول: لا يا رب. فيقول: بلى، إن لك عندنا
حسنة واحدة، لا ظلم اليوم عليك. فيخرج له بطاقة فيها: "أشهد أن لا إله إلا
الله، وأن
محمدًا عبده ورسوله" فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه
السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم، قال: "فتوضع السجلات في كفة [والبطاقة في
كفة]"
، قال: "فطاشت السجلات وثقلت البطاقة" قال: "ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم"
.
ورواه الترمذي وابن ماجه، من حديث الليث بن سعد، به،
وقال الترمذي: حسن غريب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لَهِيعة، عن عمرو بن يحيى، عن
أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "توضع الموازين
يوم القيامة، فيؤتى بالرجل، فيوضع في كفة، فيوضع
ما أحصي عليه، فتمايل
به الميزان" قال: "فيبعث به إلى النار" قال: فإذا أدبر به إذا
صائح من عند الرحمن عز وجل يقول: [لا تعجلوا]
، فإنه قد بقي له، فيؤتى ببطاقة فيها "لا إله إلا الله" فتوضع مع الرجل في كفة
حتى يميل به الميزان
.
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا أبو نوح قراد
أنبأنا ليث بن سعد، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة؛ أن
رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جلس بين يديه، فقال: يا رسول
الله، إن لي مملوكين، يكذبونني، ويخونونني، ويعصونني، وأضربهم وأشتمهم،
فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحسب ما خانوك
وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، إن
كان عقابك إياهم دون ذنوبهم، كان فضلا لك [عليهم]
وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم، كان كفافا لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم، اقتص لهم منك الفضل الذي يبقى
قبلك". فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويهتف،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما له أما يقرأ كتاب الله؟: ( وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ
شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا
وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) فقال الرجل: يا رسول الله، ما أجد شيئًا خيرًا
من فراق هؤلاء -يعني عبيده-إني أشهدك أنهم أحرار كلهم
.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)
وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
.
قد تقدم التنبيه على أن الله تعالى كثيرًا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد،
صلوات الله وسلامه عليهما، وبين كتابيهما؛ ولهذا قال: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ) . قال مجاهد: يعني: الكتاب. وقال أبو
صالح: التوراة، وقال قتادة : التوراة، حلالها وحرامها، وما فرق الله بين
الحق والباطل. وقال ابن زيد: يعني: النصر.
وجامع القول في ذلك: أن الكتب السماوية تشتمل على التفرقة بين الحق
والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، والحلال والحرام، وعلى ما يحصل
نورًا في القلوب، وهداية وخوفًا وإنابة وخشية؛ ولهذا قال: ( الْفُرْقَانَ
وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ) أي: [تذكيرًا]
لهم وعظة.
ثم وصفهم فقال: ( الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ) كقوله
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ ق:33]، وقوله:
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12]، ( وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ) أي: خائفون وجلون.
ثم قال تعالى: ( وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنـزلْنَاهُ ) يعني: القرآن
العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه تنـزيل من حكيم
حميد، ( أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) أي: أفتنكرونه وهو في غاية
[الجلاء]
والظهور؟.
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)
إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)
قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)
قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54)
قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ (55)
قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
.
يخبر تعالى عن خليله إبراهيم، عليه السلام، أنه آتاه رشده من قبل، أي: من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه، كما قال تعالى:
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83]، وما يذكر من الأخبار عنه
في إدخال أبيه له في السرب، وهو رضيع، وأنه خرج به بعد أيام، فنظر إلى
الكواكب والمخلوقات، فتبصر فيها وما قصه كثير من المفسرين وغيرهم -فعامتها
أحاديث بني إسرائيل، فما وافق منها الحق بما بأيدينا عن المعصوم قبلناه
لموافقته الصحيح، وما خالف شيئًا من ذلك رددناه، وما ليس فيه موافقة ولا
مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه، بل نجعله وقفًا، وما كان من هذا الضرب منها فقد
ترخص كثير من السلف في روايتها، وكثير من ذلك مما لا فائدة فيه، ولا حاصل
له مما ينتفع به في الدين. ولو كانت فيه فائدة تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة. والذي نسلكه
في هذا التفسير الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية، لما فيها من
تضييع الزمان، ولما اشتمل عليه كثير منها من الكذب المروج عليهم، فإنهم لا
تفرقة
عندهم بين صحيحها وسقيمها كما حرره الأئمة الحفاظ المتقنون من هذه الأمة.
والمقصود هاهنا: أن الله تعالى أخبر أنه قد آتى إبراهيم رشده، من قبل،
أي: من قبل ذلك، وقوله: ( وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ) أي: وكان أهلا لذلك.
ثم قال: ( إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ
الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ) هذا هو الرشد الذي أوتيه من صغره،
الإنكار على قومه في عبادة الأصنام من دون الله، عز وجل، فقال: ( مَا
هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ) أي: معتكفون على
عبادتها.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد الصباح، حدثنا أبو معاوية
الضرير، حدثنا سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، قال: مر عليّ، على قوم
يلعبون بالشطرنج، فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لأن يمس
صاحبكم جمرًا حتى يطفأ خير له من أن يمسها.
( قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ) : لم يكن لهم حجة سوى
صنيع آبائهم الضلال؛ ولهذا قال: ( لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) أي: الكلام مع آبائكم الذين احتججتم بصنيعهم كالكلام
معكم، فأنتم وهم في ضلال على غير الطريق المستقيم.
فلما سفه أحلامهم، وضلل آباءهم، واحتقر آلهتهم ( قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ ) يقولون
: هذا الكلام الصادر عنك تقوله لاعبًا أو محقًا فيه؟ فإنا لم نسمع به قبلك.
( قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي
فَطَرَهُنَّ ) أي: ربكم الذي لا إله غيره، هو الذي خلق السماوات [والأرض]
وما حوت من المخلوقات الذي ابتدأ خلقهن، وهو الخالق لجميع الأشياء (
وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) أي: وأنا أشهد أنه لا إله
غيره، ولا رب سواه.
وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
ثم أقسم الخليل قسمًا أسمعه بعض قومه ليكيدن أصنامهم، أي: ليحرصن على أذاهم وتكسيرهم بعد أن يولوا
مدبرين أي: إلى عيدهم. وكان لهم عيد يخرجون إليه.
قال السدي: لما اقترب
وقت ذلك العيد قال أبوه: يا بني، لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ديننا!
فخرج معهم، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض. وقال: إني سقيم،
فجعلوا يمرون عليه وهو صريع، فيقولون: مه! فيقول: إني سقيم، فلما جاز
عامتهم وبقي ضعفاؤهم قال: ( تَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ) فسمعه
أولئك.
وقال أبو إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: لما خرج قوم إبراهيم،
إلى عيدهم مروا عليه فقالوا: يا إبراهيم ألا تخرج معنا؟ قال: إني سقيم. وقد
كان بالأمس قال: ( تَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ
تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ) فسمعه ناس منهم.