(101) . يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كما قَصَصْنَا عليك خبر موسى، وما جرى له مع فرعون وجنوده على الجلية والأمر الواقع، كذلك نقص عليك الأخبار الماضية كما وقعت من غير زيادة ولا نقص، هذا ( وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ) أي: عندنا ( ذِكْرًا ) وهو القرآن العظيم، الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] ، الذي لم يعط نبي من الأنبياء [منذ بعثوا إلى أن ختموا] بمحمد صلى الله عليه وسلم تسليما، كتابًا مثله ولا أكمل منه، ولا أجمع لخبر ما سبق وخبر ما هو كائن، وحكم الفصل بين الناس منه؛ ولهذا قال تعالى: ( مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ ) أي: كذب به وأعرض عن اتباعه أمرًا وطلبًا، وابتغى الهدى في غيره، فإن الله يضله ويهديه إلى سواء الجحيم؛ ولهذا قال: ( مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ) أي: إثمًا، كما قال [الله] تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: 17] . وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم، أهل الكتاب وغيرهم، كما قال تعالى: لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ
[الأنعام: 19] . فكل من بلغه القرآن فهو نذير له وداع، فمن اتبعه هدي، ومن خالفه وأعرض عنه ضَلَّ وشقي في الدنيا، والنار موعده يوم القيامة؛ ولهذا قال: ( مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ ) أي: لا مَحِيد لهم عنه ولا انفكاك ( وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا ) أي: بئس الحمل حملهم .
ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الصُّور، فقال: "قَرنٌ يُنفَخ فيه" . وقد جاء في حديث "الصور" من رواية أبي هريرة: أنه قرن عظيم، الدَّارة منه بقدر السماوات والأرض، ينفخ فيه إسرافيل، عليه السلام. وجاء في الحديث: "كيف أنعَمُ وصاحب القَرْن قد التقم القَرْن، وحنى جبهته، وانتظر أن يؤذن له" فقالوا: يا رسول الله، كيف نقول؟ قال: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا" . وقوله: ( وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ) قيل: معناه زُرْق العيون من شدة ما هم فيه من الأهوال .
( يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ ) قال ابن عباس: يتسارّون بينهم، أي: يقول بعضهم لبعض: ( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا ) < 5-316 > أي: في الدار الدنيا، لقد كان لبثكم فيها قليلا عشرة أيام أو نحوها . قال الله تعالى: ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ) أي: في حال تناجيهم بينهم ( إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً ) أي: العاقل الكامل فيهم، ( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا ) أي لقصر مدة الدنيا في أنفسهم [يوم المعاد؛ لأن الدنيا كُلَّها وإن تكررت أوقاتها وتعاقبت لياليها وأيامها] وساعاتها كأنها يوم واحد؛ ولهذا تستقصر مدة
[المؤمنون: 112-114] أي: إنما كان لُبثكم فيها قليلا لو كنتم تعلمون لآثرتم الباقي على الفاني، ولكن تصرفتم فأسأتم التصرف، قَدَّمتُم الحاضر الفاني على الدائم الباقي.
(108) يقول تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ) أي: هل تبقى يوم القيامة أو تزول؟ ( فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ) أي: يذهبها عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييرًا. ( فَيَذَرُهَا ) أي: الأرض ( قَاعًا صَفْصَفًا ) أي: بساطًا واحدًا. والقاع: هو المستوي من الأرض. والصفصف تأكيد لمعنى ذلك، وقيل: الذي لا نبات فيه. والأول أولى، وإن كان الآخر مرادًا أيضًا باللازم؛ ولهذا قال: ( لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا ) أي: لا ترى في الأرض يومئذ واديًا ولا رابية، ولا مكانًا منخفضًا ولا مرتفعًا، كذلك قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن البصري، والضحاك، وقتادة، وغير واحد من السلف. ( يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ) أي: يوم يرون هذه الأحوال والأهوال، يستجيبون مسارعين إلى الداعي، حيثما أمروا بادروا إليه، ولو كان هذا في الدنيا لكان أنفع لهم، ولكن حيث لا ينفعهم، كما قال تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [مريم: 38] ، وقال: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر: 8] . قال محمد بن كعب القُرَظِي: يحشر الله الناس يوم القيامة في ظلمة، وتطوي السماء، < 5-317 > وتتناثر النجوم، وتذهب الشمس والقمر، وينادي مناد، فيتبع الناس الصوت [فيأتونه] فذلك قوله: ( يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ) .
وقال قتادة: ( لا عِوَجَ لَهُ ) لا يميلون عنه. وقال أبو صالح: ( لا عِوَجَ لَهُ ) لا عوج عنه. وقوله: ( وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ ) : قال ابن عباس: سكنت: وكذا قال السدي. ( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: يعني: وطء الأقدام. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، والضحاك، والربيع بن أنس، وقتادة، وابن زيد، وغيرهم. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) : الصوت الخفي. وهو رواية عن عكرمة، والضحاك. وقال سعيد بن جبير: ( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) : الحديث، وسره، ووطء الأقدام. فقد جمع سعيد كلا القولين وهو محتمل، أما وطء الأقدام فالمراد سعي الناس إلى المحشر، وهو مشيهم في سكون وخضوع. وأما الكلام الخفي فقد يكون في حال دون حال، فقد قال تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ
(112) . يقول تعالى: ( يَوْمَئِذٍ ) أي: يوم القيامة ( لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ ) أي: عنده ( إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا ) كقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] ,وقوله: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم: 26] ، وقال: وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء: 28] وقال: وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] ، وقال: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ: 38] . وفي الصحيحين، من غير وجه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم، وأكرم الخلائق على الله عز وجل أنه قال: "آتي تحت العرش، وأخر لله ساجدًا، ويَفْتَح عليّ بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع واشفع تشفع" . قال: "فيحد لي حدًّا، فأدخلهم الجنة، ثم أعود", فذكر أربع مرات، صلوات الله وسلامه عليه < 5-318 > وعلى سائر الأنبياء. وفي الحديث [أيضًا] "يقول تعالى: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، فَيُخْرِجُون خلقا كثيرا، ثم يقول: أخرجوا من النار من كان في قلبه نصف مثقال من إيمان، أخرجوا من النار من كان في قلبه ما يزن ذرّة، من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرّة من إيمان" الحديث . وقوله: ( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ) أي: يحيط علما بالخلائق كلهم، ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) كقوله: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ [البقرة: 255] . وقوله: ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) قال ابن عباس، وغير واحد: خضعت وذلت واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت، القيوم: الذي لا ينام، وهو قيم على كل شيء، يدبره ويحفظه، فهو الكامل في نفسه، الذي كل شيء فقير إليه، لا قوام له إلا به. وقوله: ( وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) أي: يوم القيامة، فإن الله سيؤدي كل حق إلى صاحبه، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء. وفي الحديث: "يقول الله تعالى: وعزتي وجلالي، لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم" . وفي الصحيح: "إياكم والظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" . والخيبة كل الخيبة من لقي الله وهو مشرك به ؛ فإن الله تعالى يقول: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
[لقمان: 13] وقوله: ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) لما ذكر الظالمين ووعيدهم، ثنى بالمتقين وحكمهم، وهو أنهم لا يُظْلَمُون ولا يُهضَمون، أي: لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم . قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والحسن، وقتادة، وغير واحد. فالظلم: الزيادة بأن يحمل عليه ذنب غيره، والهضم: النقص.
(113) يقول: ولما كان يوم المعاد والجزاء بالخير والشر واقعا لا محالة، أنـزلنا القرآن بشيرًا ونذيرًا، بلسان < 5-319 > عربي مبين فصيح لا لبس فيه ولا عيّ ، ( وَصَرَّفْنَا