فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)
أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا (89)
.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبادة بن البَخْتَريّ
حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حَمَّاد عن
سماك، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس؛ أن هارون مَرَّ بالسامري وهو ينحت
العجل، فقال له: ما تصنع؟ فقال: أصنع ما يضر ولا ينفع فقال هارون: اللهم
اعطه ما سأل على ما في نفسه ومضى هارون، فقال
السامري: اللهم إني أسألك أن يَخُور فَخَار، فكان إذا خار سجدوا له، وإذا خار رفعوا رؤوسهم.
ثم رواه من وجه آخر عن حماد وقال: [أعمل]
ما ينفع ولا يضر.
وقال السدي: كان يخور ويمشي.
فقالوا -أي: الضُّلال منهم، الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه -: ( هَذَا
إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ) أي: نسيه هاهنا، وذهب يتطلبه. كذا
تقدم في حديث "الفتون" عن ابن عباس. وبه قال مجاهد.
وقال سِماك عن عكرمة عن ابن عباس: ( فَنَسِيَ ) أي: نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم.
وقال محمد بن إسحاق، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس
فقالوا: ( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ) قال: فعكفوا عليه وأحبوه
حبًّا لم يحبوا شيئًا قط يعني مثله، يقول الله: ( فَنَسِيَ ) أي: ترك ما
كان عليه من الإسلام يعني: السامري.
قال الله تعالى ردًّا عليهم، وتقريعًا لهم، وبيانًا لفضيحتهم وسخافة
عقولهم فيما ذهبوا إليه: ( أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ
قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا ) أي: العجل ( أَفَلا
يَرَوْنَ ) أنه لا يجيبهم إذا سألوه، ولا إذا خاطبوه، ( وَلا يَمْلِكُ
لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا ) أي: في دنياهم ولا في أخراهم.
قال ابن عباس رضي الله عنه
لا والله ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره فيخرج من فيه، فيسمع له صوت.
وقد تقدم في متون الحديث
عن الحسن البصري: أن هذا العجل اسمه بهموت.
وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط، فألقوها
عنهم، وعبدوا العجل. فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في
الحديث الصحيح عن ابن عمر : أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا
أصاب الثوب -يعني: هل يصلي فيه أم لا؟ -فقال ابن عمر، رضي الله عنه:
انظروا إلى أهل العراق، قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: الحسين -وهم يسألون عن دم البعوض؟
.
وَلَقَدْ
قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ
وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)
.
يخبر تعالى عما كان من نَهْي هارون، عليه السلام، لهم عن عبادة العجل،
وإخباره إياهم: إنما هذا فتنة لكم ( وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ ) الذي
خلق كل شيء فقدره تقديرًا، ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد (
فَاتَّبِعُونِي ) أي: فيما آمركم به، واتركوا ما أنهاكم عنه.
( قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا
مُوسَى ) أي: لا نترك عبادته حتى نسمع كلام موسى فيه. وخالفوا هارون في
ذلك وحاربوه وكادوا أن يقتلوه.
قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92)
أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
قَالَ
يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ
أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
(94)
.
يقول مخبرًا عن موسى، عليه السلام، حين رجع إلى قومه، فرأى ما قد حدث فيهم من الأمر العظيم، فامتلأ عند ذلك غيظًا،
وألقى ما كان في يده من الألواح الإلهية، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وقد
قدمنا في "الأعراف" بسط ذلك، وذكرنا هناك حديث "ليس الخبر كالمعاينة".
وشرع يلوم أخاه
هارون فقال: ( مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلا تَتَّبِعَنِ
) أي: فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع ( أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) أي: فيما
كنت تقدمت إليك، وهو قوله:
اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 142] . قال: ( يَا ابْنَ أُمَّ ) ترفق له بذكر الأم مع أنه
شقيقه لأبويه؛ لأن ذكر الأم هاهنا أرق وأبلغ، أي: في الحنو والعطف؛ ولهذا
قال: ( يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي
خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ
قَوْلِي ) .
هذا اعتذار من هارون عند موسى في سبب تأخره عنه، حيث لم يلحقه فيخبره
بما كان من هذا الخطب الجسيم قال ( إِنِّي خَشِيتُ ) أن أتبعك فأخبرك بهذا،
فتقول لي: لم تركتهم وحدهم وفرقت بينهم ( وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) أي:
وما راعيت ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم .
قال ابن عباس: وكان هارون هائبًا له مطيعًا .
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)
قَالَ
بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ
الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
قَالَ
فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ
لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ
عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ
نَسْفًا (97)
إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
.
يقول موسى، عليه السلام، للسامري: ما حملك على ما صنعت؟ وما الذي عرض لك حتى فعلت ما فعلت؟
قال محمد بن إسحاق، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:
كان السامري رجلا من أهل بَاجَرْمَا، وكان من قوم يعبدون البقر، وكان
حُبُّ عبادة البقر في نفسه، وكان قد أظهر الإسلام مع بني إسرائيل. وكان اسم
السامري: موسى بن ظفر.
وفي رواية عن ابن عباس: [إنه]
كان من كرمان.
وقال قتادة: كان من قرية اسمها سامرا .
( قال بصرت بما لم يبصروا به ) أي: رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون، (
فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ) أي: من أثر فرسه. وهذا هو
المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث، أخبرنا عبيد الله بن
موسى، أخبرنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي بن عمارة، عن علي، رضي الله عنه،
قال: إن جبريل، عليه السلام، لما نـزل فصعد بموسى إلى السماء، بصر به
السامري من بين الناس، فقبض قبضة من أثر الفرس قال: وحمل جبريل موسى خلفه،
حتى إذا دنا من باب السماء، صعد وكتب الله الألواح
وهو يسمع صرير الأقلام في الألواح. فلما أخبره أن قومه قد فتنوا من بعده
قال: نـزل موسى، فأخذ العجل فأحرقه. غريب. وقال مجاهد: ( فَقَبَضْتُ
قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ) قال: من تحت حافر فرس
جبريل، قال: والقبضة ملء الكف، والقبضة بأطراف الأصابع.
قال مجاهد: نبذ السامري، أي: ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل، فانسبك عجلا جسدًا له خُوار حفيف الريح فيه، فهو خواره.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن يحيى، أخبرنا علي بن المديني، حدثنا
يزيد بن زُرَيْع، حدثنا عمارة، حدثنا عكرمة؛ أن السامري رأى الرسول، فألقي
في روعه أنك إن أخذت من أثر هذا الفرس قبضة فألقيتها في شيء، فقلت له: "كن
فكان" فقبض قبضة من أثر الرسول، فيبست أصابعه على القبضة، فلما ذهب موسى
للميقات وكان بنو إسرائيل استعاروا حلي آل فرعون، فقال لهم السامري: إنما
أصابكم من أجل هذا الحلي، فاجمعوه. فجمعوه، فأوقدوا عليه، فذاب، فرآه
السامري فألقي في روعه أنك لو قذفت هذه القبضة في هذه فقلت: "كن" كان. فقذف
القبضة وقال: "كن"، فكان عجلا له خوار، فقال:
هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى .
ولهذا قال: ( فَنَبَذْتُهَا ) أي: ألقيتها مع من ألقى، ( وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) أي: حَسَّنَتْهُ وأعجبها إذ ذاك .
(
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ )
أي: كما أخذت ومَسَسْتَ ما لم يكن أخذه ومسه من أثر الرسول، فعقوبتك في
الدنيا أن تقول: "لا مساس" أي: لا تماسّ الناس ولا يمسونك.
( وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا ) أي: يوم القيامة، ( لَنْ تُخْلَفَهُ ) أي: لا محيد لك عنه.
وقال قتادة: ( أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ ) قال: عقوبة لهم، وبقاياهم اليوم يقولون: لا مساس.
وقوله: ( وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ ) قال الحسن، وقتادة، وأبو نَهِيك: لن تغيب عنه.
وقوله: ( وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ ) أي: معبودك، ( الَّذِي ظَلْتَ
عَلَيْهِ عَاكِفًا ) أي: أقمت على عبادته، يعني: العجل ( لنحرقنه ) قال
الضحاك عن ابن عباس، والسدي: سَحَله
بالمبارد، وألقاه على النار.
وقال قتادة: استحال العجل من الذهب لحمًا ودمًا، فحرقه بالنار، ثم ألقاه، أي: رماده
في البحر؛ ولهذا قال: ( ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن رجاء، أنبأنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمارة بن
عبد وأبي عبد الرحمن، عن علي، رضي الله عنه، قال: إن موسى لما تعجل إلى
ربه، عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي نساء بني إسرائيل، ثم صوره عجلا
قال: فعمد موسى إلى العجل، فوضع عليه المبارد، فبرّده بها، وهو على شط نهر،
فلم يشرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب.
فقالوا لموسى: ما توبتنا
؟ قال: يقتل بعضكم بعضًا.
وهكذا قال السدي: وقد تقدم في تفسير سورة "البقرة" ثم في حديث "الفتون" بسط ذلك .
وقوله: ( إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ
[وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) يقول لهم موسى، عليه السلام: ليس هذا
إلهكم، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو]
أي: لا يستحق ذلك على العباد إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له، فإن كل شيء فقير إليه، عبد لربه.
وقوله: ( وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) نصب على التمييز، أي: هو عالم بكل شيء،
أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12] ،
وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن: 28] ، فلا
يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ [سبأ: 3] ،
وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] ،
وَمَا
مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ
مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود: 6] والآيات في هذا كثيرة جدًّا .