وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
وقوله: ( وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ) كقوله
إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف: 144] أي: على جميع الناس من الموجودين في زمانه.
و[قد]
قيل: إن الله تعالى قال: يا موسى، أتدري لم خصصتك بالتكليم من بين الناس؟ [قال: لا. قال:]
لأني لم يتواضع لي أحد تواضعك.
وقوله: ( فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ) أي: اسمع الآن ما أقول لك وأوحيه إليك :
( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا ) هذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله، وحده لا شريك له.
وقوله: ( فَاعْبُدْنِي ) أي: وحدّني وَقُم بعبادتي من غير شريك، (
وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) قيل: معناه: صَلِّ لتذكرني. وقيل: معناه:
وأقم الصلاة عند ذكرك لي.
ويشهد لهذا الثاني ما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا
المثنى بن سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا
رَقَد أحدكم عن الصلاة، أو غفل عنها، فليصلها إذا ذكرها؛ فإن الله تعالى
قال: ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي )
.
وفي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن
صلاة أو نسيها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك"
.
وقوله: ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ ) أي: قائمة لا محالة، وكائنة لا بد منها.
وقوله: ( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) قال الضحاك، عن ابن عباس: أنه كان
يقرؤها: "أكاد أخفيها من نفسي" ، يقول: لأنها لا تخفى من نفس الله أبدًا.
وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: من نفسه. وكذا قال مجاهد، وأبو صالح، ويحيى بن رافع.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) يقول: لا أطلع عليها أحدًا غيري.
وقال السدي: ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا قد أخفى الله عنه علم
الساعة، وهي في قراءة ابن مسعود: "إني أكاد أخفيها من نفسي" ، يقول: كتمتها
عن الخلائق، حتى لو استطعت أن أكتمها من نفسي لفعلت.
وقال
قتادة: ( أَكَادُ أُخْفِيهَا ) وهي في بعض القراءة أخفيها من نفسي، ولعمري
لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين، ومن الأنبياء والمرسلين.
قلت: وهذا كقوله تعالى:
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ [النمل: 65] وقال:
ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً [الأعراف: 187] أي: ثقل علمها على أهل السموات والأرض.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة حدثنا مِنْجَاب، حدثنا أبو
نُمَيْلة، حدثني محمد بن سهل الأسدي، عن وِقَاء قال: أقرأنيها سعيد بن
جبير(أكاد أَخْفيها) ، يعني: بنصب
الألف وخفض الفاء، يقول: أظهرها، ثم [قال]
أما سمعت قول الشاعر
.
دَأبَ شَــهْرَين, ثــم شـهرًا دَمِيكًـا |
| بـــأريكَين يَخْفيـــان غَمـــيرًا |
وقال الأسدي: الغمير: نبت رطب، ينبت في خلال يبس. والأريكين: موضع، والدميك: الشهر التام. وهذا الشعر لكعب بن زهير.
وقوله سبحانه وتعالى: ( لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ) أي: أقيمها لا محالة، لأجزي كل عامل بعمله،
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8] و
إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 16].
وقوله: ( فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ
هَوَاهُ فَتَرْدَى ) المراد بهذا الخطاب آحاد المكلفين، أي: لا تتبعوا
[سبيل]
من كذب بالساعة، وأقبل على ملاذه في دنياه، وعصى مولاه، واتبع هواه، فمن وافقهم على ذلك فقد خاب وخسر ( فَتَرْدَى ) أي: تهلك وتعطب
قال الله تعالى:
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل: 11].
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19)
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)
قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى (21)
.
هذا برهان من الله تعالى لموسى، عليه السلام، ومعجزة عظيمة، وخرق للعادة باهر، دال
على أنه لا يقدر على مثل هذا إلا الله عز وجل، وأنه لا يأتي به إلا نبي
مرسل، وقوله: ( وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ) قال بعض المفسرين:
إنما قال له ذلك على سبيل الإيناس له. وقيل: إنما قال له ذلك
على وجه التقرير، أي: أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها، فسترى ما
نصنع بها الآن، ( وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ) استفهام تقرير.
( قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا ) أي: أعتمد عليها في حال
المشي ( وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ) أي: أهز بها الشجرة ليسقط ورقها،
لترعاه غنمي.
قال عبد الرحمن بن القاسم: عن الإمام مالك: والهش: أن يضع الرجل
المحْجَن في الغصن، ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثَمَره، ولا يكسر العود، فهذا
الهش، ولا يخبط. وكذا قال ميمون بن مهران أيضًا.
وقوله: ( وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ) أي: مصالح ومنافع وحاجات أخر غير ذلك. وقد تكلف
بعضهم لذكر شيء من تلك المآرب التي أبهمت، فقيل: كانت تضيء له بالليل،
وتحرس له الغنم إذا نام، ويغرسها فتصير شجرة تظله، وغير ذلك من الأمور
الخارقة للعادة.
والظاهر أنها لم تكن كذلك، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى صيرورتها
ثعبانًا، فما كان يفر منها هاربًا، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية
وكذا قول بعضهم: إنها كانت لآدم، عليه السلام. وقول الآخر: إنها هي الدابة
التي تخرج قبل يوم القيامة. وروي عن ابن عباس أنه قال: كان اسمها ماشا.
والله أعلم بالصواب.
وقوله تعالى: ( [ قَالَ ]
أَلْقِهَا يَا مُوسَى ) أي: هذه العصا التي في يدك يا موسى، ألقها ( فَأَلْقَاهَا
فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ) أي: صارت في الحال حَيَّة عظيمة، ثعبانًا طويلا يتحرك حركة سريعة، فإذا هي تهتز كأنها جان، وهو
أسرع الحيات حركة، ولكنه صغير، فهذه في غاية الكبر، وفي غاية سرعة الحركة، ( تَسْعَى ) أي: تمشي وتضطرب.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عَبْدَة، حدثنا حفص بن جُمَيْع، حدثنا سِمَاك، عن عكرمة، عن [ابن عباس]
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ) ولم تكن قبل ذلك حية، فمرت
بشجرة فأكلتها، ومرت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها،
فولى مدبرًا، فنودي أن: يا موسى، خذها. فلم يأخذها، ثم نودي الثانية أن:
خذها ولا تخف. فقيل له في الثالثة: إنك من الآمنين. فأخذها.
وقال وهب بن مُنَبّه في قوله: ( فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ) قال: فألقاها على وجه الأرض، ثم حانت نظرة فإذا أعظم
ثعبان نظر إليه الناظرون، فَدَبّ يلتمس كأنه يبتغي شيئًا يريد أخْذَه، يمر
بالصخرة مثل الخَلِفَة من الإبل فيلتقمها، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل
الشجرة العظيمة فيجتثها، عيناه توقدان نارا، وقد عاد المحْجَن منها عُرفًا.
قيل: شعر مثل النيازك، وعاد الشعبتان منها مثل القليب الواسع، فيه أضراس
وأنياب، لها صريف، فلما عاين ذلك موسى ولى مدبرًا ولم يُعَقِّب، فذهب
حتى أمعن، ورأى أنه قد أعجَز الحية، ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه، ثم
نودي: يا موسى أنْ: ارجع حيث كنت. فرجع موسى وهو شديد الخوف. فقال: (
خُذْهَا ) بيمينك ( وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى ) وعلى
موسى حينئذ مِدْرَعة من صوف، فدخلها بخلال من عيدان، فلما أمره بأخذها أدلى
طرف المدرعة على يده، فقال له ملك
أرأيت يا موسى، لو أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئًا؟ قال:
لا ولكني ضعيف، ومن ضَعْف خلقت. فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية، حتى
سمع حسّ الأضراس والأنياب، ثم قَبض فإذا هي عصاه التي عهدها، وإذا يده في
موضعها الذي كان يضعها إذا توكأ بين الشعبتين؛ ولهذا قال تعالى: (
سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى ) أي: إلى حالها
التي تعرف قبل ذلك.
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)
لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)
يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)
هَارُونَ أَخِي (30)
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)
إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
.
وهذا بُرهان ثان لموسى، عليه السلام، وهو أن الله أمره أن يدخل يده في
جيبه، كما صرح به في الآية الأخرى، وهاهنا عبر عن ذلك بقوله: ( وَاضْمُمْ
يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ ) وقال في مكان آخر:
وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ [القصص: 32].
وقال مجاهد: ( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ ) كفه تحت عضده.
وذلك أن موسى، عليه السلام، كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها، تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر.
وقوله: ( تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) أي: من غير بَرَص ولا
أذى، ومن غير شين. قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك،
والسدي، وغيرهم.
وقال الحسن البصري: أخرجها -والله-كأنها مصباح، فعلم موسى أنه قد لقي
ربه عز وجل؛ ولهذا قال تعالى: ( لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى ) .
وقال وهب: قال له ربه: ادْنُهْ: فلم يزل يدنيه حتى شدّ ظهره بجذع
الشجرة، فاستقر وذهبت عنه الرعدة، وجمع يده في العصا، وخضع برأسه وعنقه.
وقوله ( اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ) أي: اذهب إلى فرعون ملك مصر، الذي خَرَجت فارًا منه وهاربًا،
فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومره فَلْيُحْسِن إلى بني إسرائيل
ولا يعذبهم، فإنه قد طغى وبَغَى، وآثر الحياة الدنيا، ونسي الرب الأعلى.
قال وهب بن مُنَبِّه: قال الله لموسى: انطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي، وإني
معك أيدي ونَصْري، وإني قد ألبستك جُنَّةً من سلطاني لتستكمل بها القوة في
أمري، فأنت جند عظيم من جندي، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي، بطر نعمتي،
وأمن مكري، وغرته الدنيا عني، حتى جحد حقي، وأنكر ربوبيتي، وزعم أنه لا
يعرفني، فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي، لبطشت به
بطشة جبار، يغضب لغضبه السموات والأرض، والجبال والبحار، فإن أمرت السماء
حصبته، وإن أمرت الأرض ابتلعته، وإن أمرت الجبال دمرته، وإن أمرت البحار
غرقته، ولكنه هان عليّ، وسقط من عيني، ووسعه حلمي، واستغنيت بما عندي، وحقي
إني أنا الغنيّ لا غنيّ غيري، فبلغه رسالتي، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي
وإخلاصي، وذكره أيامي
وحذره نقمتي وبأسي، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي، وقل له فيما بين ذلك قولا لينًا لعله يتذكر أو يخشى، وخَبّره
أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة، ولا يروعنك ما
ألبسته من لباس الدنيا، فإن ناصيته بيدي، ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا
بإذني، وقل له: أجب ربك فإنه واسع المغفرة، وقد أمهلك أربعمائة سنة، في
كلها أنت مبارزه بالمحاربة، تسبه وتتمثل به وتصدّ عباده عن سبيله وهو يمطر
عليك السماء، وينبت لك الأرض، [و]
لم تسقم ولم تهرم ولم تفتقر [ولم تغلب]
ولو شاء الله أن يعَجِّل لك العقوبة لفعل، ولكنه ذو أناة وحلم عظيم. وجاهده بنفسك وأخيك وأنتما تحتسبان بجهاده
فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت، ولكن ليعلم هذا العبد
الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة -ولا قليل مني-تغلب
الفئة الكثيرة بإذني، ولا تعجبنكما
زينته، ولا ما مَتّع به، ولا تمدا إلى ذلك أعينكما، فإنها زهر
الحياة الدنيا، وزينة المترفين. ولو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة،
ليعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما، فعلت، ولكني
أرغب بكما عن ذلك، وأزويه عنكما. وكذلك أفعل بأوليائي، وقديمًا ما جرت
عادتي في ذلك. فإني لأذودُهم عن نعيمها ورخائها، كما يذود الراعي الشفيق
إبله عن مبارك الغرة، وما ذاك لهوانهم عليّ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من
كرامتي سالما موفرًا لم تكْلَمْه الدنيا.
واعلم أنه لا يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ مما
عندي من الزهد في الدنيا، فإنها زينة المتقين، عليهم منها لباس يُعْرَفون
به من السكينة والخشوع، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، أولئك أوليائي
حقًا حقًا، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك، وذلل قلبك ولسانك، واعلم أنه من
أهان لي وليًا أو أخافه، فقد بارزني بالمحاربة،
وبادأني وعرض لي نفسه ودعاني إليها، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي، أفيظن
الذي يحاربني أن يقوم لي، أم يظن الذي يعاديني أن يعجزني، أم
يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني. وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة، لا أَكِلُ مضطرهم
إلى غيري.
رواه ابن أبي حاتم.
( قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ) هذا سؤال من
موسى، عليه السلام، لربه عز وجل، أن يشرح له صدره فيما بعثه به، فإنه قد
أمره بأمر عظيم، وخطب جسيم، بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك،
وأجبرهم، وأشدهم كفرًا، وأكثرهم جنودًا، وأعمرهم ملكًا، وأطغاهم وأبلغهم
تمردًا، بلغ من أمره أن ادعى أنه لا يعرف الله، ولا يعلم لرعاياه إلهًا
غيره.
هذا وقد مكث موسى في داره مدة وليدًا عندهم، في حجر فرعون، على فراشه،
ثم قتل منهم نفسا فخافهم أن يقتلوه، فهرب منهم هذه المدة بكمالها. ثم بعد
هذا بعثه ربه عز وجل إليهم نذيرًا يدعوهم إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده
لا شريك له؛ ولهذا قال: ( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي
أَمْرِي ) أي: إن لم تكن أنت عوني ونصيري، وعضدي وظهيري، وإلا فلا طاقة لي
بذلك.
( وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي ) وذلك لما كان
أصابه من اللثغ، حين عرض عليه التمرة والجمرة، فأخذ الجمرة فوضعها على
لسانه، كما سيأتي بيانه، وما سأل أن يزول ذلك بالكلية، بل بحيث
يزول العي، ويحصل لهم فهم ما يريد منه وهو قدر الحاجة. ولو سأل الجميع
لزال، ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة، ولهذا بقيت بقية، قال الله
تعالى إخبارًا عن فرعون أنه قال:
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف 52] أي: يفصح بالكلام.
وقال الحسن البصري: ( وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ) قال: حل عقدة واحدة، ولو سأل أكثر من ذلك أعطى.
وقال ابن عباس: شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل، وعقدة
لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن
يعينه بأخيه هارون يكون له ردءًا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه،
فآتاه سؤله، فحل عقدة من لسانه.
وقال ابن أبي حاتم: ذُكِرَ عن عَمْرو بن عثمان، حدثنا بَقِيّة، عن أرطاة
بن المنذر، حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب، عنه قال: أتاه ذو قرابة له. فقال
له: ما بك بأس لولا أنك تلحن في كلامك، ولست تعرب في قراءتك؟ فقال القرظي:
يا ابن أخي، ألست أفهمك إذا حدثتك
؟ . قال: نعم. قال: فإن موسى، عليه السلام، إنما سأل ربه أن يحل
عقدة من لسانه كي يفقه بنو إسرائيل كلامه، ولم يزد عليها. هذا لفظه.
وقوله: ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي ) :
وهذا أيضًا سؤال من موسى في أمر خارجي عنه، وهو مساعدة أخيه هارون له.
قال الثوري، عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: فَنُبّئ هارون ساعتئذ حين نبئ موسى، عليهما السلام.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن ابن نُمَير، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة
عن أبيه، عن عائشة أنها خرجت فيما كانت تعتمر، فنـزلت ببعض الأعراب، فسمعت رجلا يقول: أيّ أخ كان في الدنيا
أنفع لأخيه؟ قالوا: ما ندري. قال: والله أنا أدري
قالت: فقلت في نفسي: في حلفه لا يستثنى، إنه ليعلم أي أخ كان في الدنيا
أنفع لأخيه. قال: موسى حين سأل لأخيه النبوة. فقلت: صدق والله. قلت: وفي
هذا قال الله تعالى في الثناء على موسى، عليه السلام:
وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب: 69].
وقوله: ( اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) قال مجاهد: ظهري.
( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) أي: في مشاورتي.
( كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ) قال مجاهد: لا
يكون العبد من الذاكرين الله كثيرًا، حتى يذكر الله قائما وقاعدًا
ومضطجعًا.
وقوله: ( إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ) أي: في اصطفائك لنا، وإعطائك
إيانا النبوة، وبعثتك لنا إلى عدوك فرعون، فلك الحمد على ذلك.
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)
هذه
إجابة من الله لرسوله موسى، عليه السلام، فيما سأل من ربه عز وجل، وتذكير
له بنعمه السالفة عليه،